محاوراتٌ
في الدِّين
(الحلقة: 10)
بقلم: الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى
1297هـ/1880م، رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند
تعريب: الأستاذ محمد ساجد القاسمي، أستاذ
بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند ، الهند
كلمة الشيخ
محمد قاسم:
هذه خلاصةُ ما قال القسيس ردًّا على
الأسئلة ، وإن كانت كلمتُه مُسْهِبَةً طويلةَ النَّفَس استغرقت وقتًا طويلاً ،
ثمَّ عاد القسيس إلى كرسيّه ، وقام الشيخ محمد قاسم وقَالَ : لم يَفْهَم القسيس
غرض السؤال . لم يكن غرض السائل أن يسأل : أكان العالم معدومًا قبل وجوده أم لا أو
خلق العالم بأيِّ شيءٍ : بقــــدرته أو بآلة أخرى . لو كان غرضه هذا لكان ردُّه
موافقًا للسؤال .
بين
السؤال والردّ عليه بون شاسع :
وإنما غرض السائل – على ما يبدو – هو
أنَّه من أيِّ مادةٍ خَلَقَ العالم ، والتفت إلى المنشئ "بيارى لال" و
"لاله مكتا برشاد" وغيرهم مستفسرًا إياهم غرض السؤال ، فقالوا جميعًا:
غــرض السؤال هو ما شَرَحْتَه. ثم قال الشيخ: لما لم يفهم القسيس غرض السؤال كان
ردّه عليه لغوًا؛ لأنَّ بين السؤال والرّد عليه بونا شَاسِعًا .
ماهي
مادة العالم ؟:
إنَّ علاقة العالم مع خالقه كعلاقة النور
مع الشمس ، فإذا اطلعت الشمس أشرق العالم بنورها . وإذا غربت صَحِبَها النور ،
وأصبحت الأرض والسماء مظلمةً . كذلك تُوجَدُ المخلوقات إذا أراد الله تعالى
إيجادها ، وتفنى إذا أراد إفناءها. إنَّ الأشعة المنتشرة مادتها نور الشمس الذي
ينتشر إلى أبعد الأرجاء ، ويُحيط بالأرض والسماء . كذلك وجود المخلوقات مادته وجود
الله الذي يُحِيْطُ بالكائنات ويشملها . كما أنَّ الأشعة مادتُها نور الشمس ،
وتعرضها أشكال مختلفة من مربّعٍ ومثلَّثٍ ومنحرفٍ ودائريٍّ وفقًا لتصميمات فِنَاء
المنزل وفتحاته ، كذلك وجودُ المخلوقات مصدره وجود الله تعالى، والأشكال المختلفة
للمخلوقات التي يتميز بها بعضها عن بعضٍ، يطرأ عليها وفقًا لعلم الله تعالى .
وحدةٌ
ومغائرةٌ معًا :
فكما أنَّ حركة السفينة وحركة
ركَّابها واحدة، مع أنَّ السفينة تختلف عن ركابها كلَّ الاختلاف، فالسفينة شيء
وركابها شيء آخر، كذلك وجود الله و وجود العالم واحدٌ، مع أنَّ الله يختلف عن
العالم كلَّ الاختلاف .
الوجود
نوعان : حقيقي ومجازي :
كما أنَّ النور المذكور والحركة
المذكورة لهما انتماءآن : انتماء إلى الشمس والسفينة انتماءً أوليًّا ذاتيًّا
حقيقيًّا، وانتماء إلى الأرض وركاب السفينة انتماءً ثانويًّا عرضيًّا مجازيًّا،
كذلك للوجود انتماءآن: انتماء إلى الله تعالى انتماءً ذاتيًّا حقيقيًّا أوليًّا،
وانتماء إلى العالم انتماءً عرضيًّا مجازيًّا ثانويًّا .
وجود
العالم لم يصدر عن ذات اللّه وإنما صدر بفضله:
كما أنَّ أشكال النّور من مربعٍ ومدوَّرٍ
وغيرهما لم تصدر عن الشمس ، وليست هي عطاءً وفيضًا وصفةً لها، كما صدر النور عنها؛
بل نستطيع أن نقول: إنّها – الأشكال – صدرت وظهرت بفضل الشمس، ولو لم تطلع الشمس
لما ظهرت هذه الأشكال، كذلك حقائق المخلوقات أي أشكالها المميّزة لها، سواء كانت
ظاهرةً كحقائق الأجسام أو باطنةً كحقائق الأرواح لم تصدر عن ذات الله تعالى ولم
يخرج عنها ، فلا تكون فيضًا وعطاء منه وصفة له ، كما صدر الوجود عن ذات الله؛ بل
نقول: إنَّ هذه الحقائق كلها ظهرت بفضل ذات الله تعالى، لو لم يُرِدْ إيجادها لما
ظهر هذا العالم من ستار العدم إلى مسرح الوجود .
حُسْنُ
وقُبْحُ المخلوقات لايستلزم
أن
يكون الخالق حَسَنًا أو قبيحًا
إذًا فحسن وقبح المخلوقات لايستلزم
أن يكون الخالق حسنًا أو قبيحًا، وإنما تكون تلك الأشكال حسنةً أو قبيحةً ، مثله
كمثل قرطاسٍ يكتب عليه خطاط ماهر خطوطاً حسنةً وقبيحةَ، وطبيعي أنّ الخطوط إنما
تكون حسنةً أو قبيحةً، ولا يستلزم حسنها وقبحها أن يكون الخطاط الماهر حسنًا
أوقبيحًا . كذلك حسن وقبح الحقائق الممكنة لايؤدي إلى حسن وقبح الخالق، وإنما
يقتصر الحسن والقبح على تلك الحقائق .
وبالجملة أنّ الحقائق الممكنة تختلف
عن الله تعالى، ويختلف بعضها عن بعضٍ كذلك. وأما مادة الحقائق المذكورة فهي الوجود
الشامل الذي له نِسْبَةٌ إلى ذات الله تعالى نِسْبَةَ الأشعة إلى ذات الشمس.
فالمخلوقات يحتاج في وجودها إلى الله تعالى احتياجَ الأشعة في وجودها إلى ذات
الشمس أو احتياج حرارة الماء الحار في وجودها إلى حرارة النار. ففناء المخلوقات
وإتيانها وذهابها إنما يدل على أنَّ وجودها ليس من صنع ذاتها، وإنما هو مستعار
وفيض لمن له وجود من صنع ذاته وملازِمٌ له ملازمةَ الحرارة للنار والنورِ للشمس.
سؤال
عقيم :
أما السؤال: متى خلق الله تعالى
العالم؟ فأنا أوافق القسيس في الإجابة عنه ، ذلك أنَّ هذا السؤال – من الوجهة
الدينية – ليس جديرًا بالاستفهام ، وإنما الجدير بالاستفهام: لماذا خلق العالم؟ ،
فالسؤال عن الخبز: متى خُبِزَ؟ أمر سخيف باطل. وإنما ينبغي أن يُسْأل لماذا
يُخْبَزُ الخبز؟ فالغرض من وراء خلق العالم الذي يتضمَّنُ السؤال الأول هو صالح
للاستفهام والإجابة.
الغرض
من وراء خلق العالم:
أقول أولاً: ما قال القسيس عن غرض
خلق العالم من أنَّ الله تعالى شاءَ خلْقَ العالَمِ فخلقه، أمر – بعد تنقيحه – لا يُسَلِّم
به عاقل؛ لأنّ ذلك يعني أنّ خلق العالم ليس وراءه من غرضٍ وحكمةٍ، وإنما خلقه،
لأنّه شاءه، فإن كان الأمر كذلك، فقد سوّى القسيس بين أفعال الله وأفعال الأطفال،
فمن شأن الأطفال أنّهم يفعلون مايشاؤون: يجلسون إذا شاؤوا ويقومون إذا شاؤوا،
ويَثِبون إذا شاؤوا، ويسكتون إذا شاؤوا، ويأكلون إذا شاؤوا، وينامون إذا شاؤو،
وهكذا، فشتّان مابين أفعال الله تعالى وأفعال العباد، فإن لم تَشْتَمِلْ أفعاله
تعالى على غرضٍ و حكمةٍ فمن تشتمل أفعاله عليهما؟! فمِنْ شأن عباده أنّهم
لايمارسون فعلاً إلا إذا تخيَّلوا نتيجته واستحضروا حكمته ومصلحته، فكيف لايكون
شأن الله تعالى كذلك .
الغرض
المنشود له نوعان :
نعم ! إنَّ الغرض المنشود له نوعان:
الأوَّل أنَّ الفاعل يحتاج إلى نتيجة فعله وغرضه المنشود، كالمريض يستكتب وصفةً من
الطبيب، فهو يحتاج إليه. والثاني أنّ الفاعل لايحتاج إلى نتيجة فعله، وإنما يحتاج
إليه غيره، كالطبيب يكتب وصفةً للمريض، فهو – من حيث أنه طبيب – لايحتاج إليها،
وإنما يمارِسُها تحقيقًا لحاجة غيره.
الغرض
من وراء خلق العالم هو العبادة والعبودية :
لن يكون الغرض المنشود من وراء خلق
العالم بأن يحتاج إليه الله تعالى؛ لأنه إن كان محتاجًا إليه لايكون إلـٰـهًا؛
بل الألوهية تستلزم أن تكون الموجودات كلها محتاجة إليه في وجودها، كما أثبتُ
بالأمس أنَّ أفعاله تعالى تشتمل على النوع الثاني من الغرض والحكمة، فمعنى خلق
العالم أنه أعطى العالم الوجود وما يَلزَمُ الوجودَ من الصفات.
نعم! إنّ أفعاله التي تشتمل على
النوع الثاني من الغرض والحكمة ، لايكون غرضه من ورائها إلا الإعزاز والتكريم
لنفسه ؛ لأن إعطاءَ الوجود ومايلزمه من الصفات – الذي هو خلاصة الإيجاد – لابد أن
يكون له من غرضٍ، وما عسى أن يكون الغرض من ورائه؟ فالعبادة والعبودية والعجز
والتضرع ينبغي أن تكون هي الغرض المنشود لله تعالى.
اللّه
تعالى يتصف بالصفات كلها إلا العبودية :
فإذا تأمّلنا في صفات الله تعالى
وجدنا أنه يتصف بالصفات كلها، فإن كان أحد عالما فالله تعالى عليم، وإن كان أحد
قادرًا فهو قدير، فما في المخلوقات من علمٍ وقدرةٍ هو انعكاسٌ من علم الله وقدرته.
فكما أنَّ المرآة فيها انعكاس من نورالشمس، وإلا ليس في المرآة شيء من النور، كذلك
ما في المخلوقات من علم وقدرة هو انعكاس من علم الله وقدرته، وإلا ليس في الممكنات
من علم وقدرة .
على هذا فهذا النوع من الصفات لن
تكون غرضا مقصودًا لله تعالى، لأنها مهداة منه، وإنما يكون غرضه المقصود ما ينقصه
ويُعْوِزُه تعالى، وتلك هي صفة العبودية والعجز والتضرع، وهذه هي الصفة التي
لايتصف بها الله تعالى.
أما خَلْقُ العالم كلِّه لهذا الغرض:
الطاعة والعبادة، فذلك بأنَّ العالم كله خُلِقَ للإنسان، والإنسان خُلِقَ للطاعة
والعبادة، إذًا فالإنسان وباقي العالم – مثلاً – كالعلف والحبوب للفرس، والفرس
للركوب، إذاً فالعلف والحبوب كذلك لغرض الركوب . وهكذا الخبز للأكل ، والحطب
لإعداده، فالحطب كذلك لغرض الخبز، ولذلك يُعَدُّ الحطب من نفقات الطعام ، فيُقال –
بعد حساب الحطب – أنَّ الطعام كلَّفَ كذا مبلغًا من المال.
وجود
الكائنات لمصلحة الإنسان:
جملة القول أنَّ ما كان مقوِّمًا
لشيء يُعَدُّ في حسابه، فإذا نظرنا فيما بين الأرض والسماء من أشياء وجدناها
لمصلحة الإنسان ومنفعته، والإنسان لايصلح لهذه الأشياء ولا ينفعها، فلولا الأرض فعلامَ
استقَرَّ الإنسان ونامَ ومشى؟ وأين زَرَعَ، وبنى منزله وغرس أشجاره؟ فلولا الأرض
لاستحالَ عيشُ الإنسان، ولولا الإنسان لما ضَرَّ ذلك من الأرض شيئًا .
هكذا لولا الماء فماذا شرب؟ ولولم
يشرب فكيف حَيِيَ؟ وبِمَ أعدَّ الطعام وغَسَلَ الثياب ، واغْتَسل؟ فلولا الماء
لصعُبَ عيش الإنسان، ولولا الإنسان لما ضَرَّ ذلك من الماء شيئًا. ولولا الهـواء
فكيف تَنَفَّسَ الإنسان ؟ وكيف نما الزرع وكيف هبَّت النمسات السَّارة؟ فلولا
الهواء لكنّا أمواتًا، ولولا نا لما ضرّ ذلك من الهواء شيئًا .
وهكذا لولا الشمس والقمر والنجوم لاستحال
نظر الإنسان ومشيه، ولولا الإنسان لما ضَرَّ ذلك من الشمس والقمر والنجوم شيئًا.
ولولا السماء ودورانها لما ظَلَّلَ شيء ولما تعاقب الصيف والشتاء ، ولولا الإنسان
لما ضَرَّ عدمه من السماء ودورانها شيئًا.
الإنسان
ليس عبثًا :
على كلٍ فإذا نظرنا إلى الإنسان
وجدناه لاينفع شيئًا مما بين السماء والأرض . وكل ما بين السماء والأرض من أشياء
يصلح للإنسان وينفعه. إذا فإن لم يكن الإنسان لمصلحة الله لم يكن شيء أشدَّ عبثا
وضياعًا من الإنسان. إلا أنّ الإنسان – على ما يتمتع به من العقل والمزايا والحسن
والجمال – كيف يكون عبثًا وضائعًا؟ فإن كان الإنسان – على أفضليته المعروفة
والمعترف بها – عاطلاً ضائعًا فاعلموا أنه ليس شيء أشدّ قبحا من الإنسان . على هذا
فلزم أن نقول: إنه خُلِقَ لمصلحة الله تعالى. فهو – لما يتمتع به من مزايا وفضائل
– يكون لمصلحة عظيمة وغرضٍ عظيم .
العبادة
والعجز والتضرع :
ومن الطبيعي أنَّ الله تعالى ليس
محتاجًا إلى شيء في أمرٍ، فكيف يكون محتاجًا إلى الإنسان الذي احتياجُه إلى ما بين
الأرض والسماء من أشياء أوضحُ وأظهرُ. فلَزِمَ القول بأنه خُلِقَ للعبادة والعجز
والتضرع ؛ لأنَّ العبادة والعجز والتضرع هي التي ليست عند الله تعالى .
ثم إنَّ العبادة والعجز والتضرع
بالنسبة إلى الله تعالى – وفقًا لما تقدَّم من البحث – كتواضع المريض وتَذَلُّله
أمام الطبيب . فكما أنَّ الطبيب لأجل تواضع المريض وتذلُّله يرحمه ويُشفِقُ عليه
ويداويه، كذلك الله لأجل عبادة الإنسان إياه وعجزه وتضرُّعه له يرحمه ويُشْفِقُ
عليه .
غاية
خلق العالم كله عبادة :
على كلٍ فقد خُلِقَ العالم كله
للإنسان، وخُلِقَ الإنسان للعبادة، فكما أنَّ الفرس للركوب، والعلف والحبوب للفرس،
فيُعَدُّ العلف والحبوب ضمن الركوب، فكذلك الإنســـان خُلِق للعبادة، وخُلِق العالم
كله للإنسان ، فيوضع العالم كله في عداد العبادة .
هكذا كان الشيخ محمد قاسم يلقي كلمته
حتى انتهى الموعد المحدّد ، فجلس، ووقَفَ الباندت "ديانند" لإلقاء
كلمته، وقد سمعت المنشئ "بيارى لال" والمنشئ "مكتابرشاد"
يُثْنِيانِ على كلمة الشيخ قائلين: "هذه هي الإجابة".
ربيع
الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبريل – مايو
2008م